سلسة الفوائد النحوية:
43- لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بشاعر, وبيان الحكمة في ذلك
(**) قال تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ
مُّبِينٌ}
(**) وقال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}
(**) وعَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ رضي الله عنه، قال: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ، فَعَثَرَ، فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ:
«هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ» متفق عليه
(**) وفي (شرح النووي على مسلم),(12/ 118):
(**) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(أنا النبي لا كذب أنا بن عَبْدِ الْمُطَّلِبْ)
(**) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ كَوْنَ الرَّجَزِ شِعْرًا لِوُقُوعِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{ومَا عَلَّمْنَاهُ الشَّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي له}
(**) وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَاحْتُجَّ بِهِ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْخَلِيلِ فِي أَنَّهُ
شِعْرٌ.
(**) وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الشِّعْرَ هُوَ مَا قُصِدَ إِلَيْهِ, وَاعْتَمَدَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُوقِعَهُ مَوْزُونًا مُقَفًّى يَقْصِدُهُ إِلَى الْقَافِيَةِ.
(**) وَيَقَعُ فِي أَلْفَاظِ الْعَامَّةِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَوْزُونَةِ, وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّهَا شِعْرٌ, وَلَا صَاحِبُهَا شَاعِرٌ,
(**) وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوْزُونِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{لَنْ تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}, وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ},
(**) وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَا يُسَمِّيهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ شِعْرًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُقْصَدْ تَقْفِيَتُهُ وجعله شعرا.
(**) قَالَ: وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ, فَأَوْقَعَهُ ذَلِكَ فِي أَنْ قَالَ: الرِّوَايَةُ (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ) بِفَتْحِ الْبَاءِ حِرْصًا مِنْهُ عَلَى أَنْ يُفْسِدَ الرَّوِيَّ فَيَسْتَغْنِيَ عَنِ الِاعْتِذَارِ,
(**) وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ, هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي عَنِ الْمَازِرِيِّ.
(**) قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ السَّعْدِيُّ الصَّقَلِّيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَطَّاعِ فِي كتابه: (الشافي في علم القوافي):
قد رأي قَوْمٍ مِنْهُمُ الْأَخْفَشُ وَهُوَ شَيْخُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ بَعْدَ الْخَلِيلِ أَنَّ مَشْطُورَ الرَّجَزِ وَمَنْهُوكَهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ),
(**) وَقَوْلِهِ صَلَّى الله عليه وسلم:(هل أنت إلا أصبع دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ) ,
(**) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(أَنَا النَّبِيُّ لَا كذب أنا بن عبد المطلب) وأشباه هذا,
(**) قال بن الْقَطَّاعِ: وَهَذَا الَّذِي زَعَمَهُ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ غَلَطٌ بَيِّنٌ,
(**) وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّاعِرَ إِنَّمَا سُمِّيَ شَاعِرًا لِوُجُوهٍ:
(**) مِنْهَا: أَنَّهُ شَعَرَ الْقَوْلَ وَقَصَدَهُ وَأَرَادَهُ وَاهْتَدَى إِلَيْهِ وَأَتَى بِهِ كَلَامًا مَوْزُونًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ مُقَفًّى.
(**) فَإِنْ خَلَا مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَوْ بَعْضِهَا لَمْ يَكُنْ شِعْرًا, وَلَا يَكُونُ قَائِلُهُ شَاعِرًا, بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ كَلَامًا مَوْزُونًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ وَقَصَدَ الشِّعْرَ, أَوْ أَرَادَهُ وَلَمْ يُقَفِّهِ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ الْكَلَامُ شِعْرًا, وَلَا قَائِلُهُ شَاعِرًا بِإِجْمَاعِ
الْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ.
(**) وَكَذَا لَوْ قَفَّاهُ وَقَصَدَ بِهِ الشِّعْرَ وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ مَوْزُونًا لَمْ يَكُنْ شِعْرًا
(**) وَكَذَا لَوْ أَتَى بِهِ مَوْزُونًا مُقَفًّى لَكِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشِّعْرَ لَا يَكُونُ شِعْرًا,
(**) وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَأْتُونَ بِكَلَامٍ مَوْزُونٍ مُقَفًّى غَيْرَ أَنَّهُمْ مَا قَصَدُوهُ وَلَا أَرَادُوهُ وَلَا يُسَمَّى شِعْرًا.
(**) وَإِذَا تُفُقِّدَ ذَلِكَ وُجِدَ كَثِيرًا فِي كَلَامِ النَّاسِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السُّؤَّالِ: اخْتِمُوا صَلَاتَكُمْ بِالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ, وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ,
(**) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْمَوْزُونَ لَا يَكُونُ شِعْرًا إِلَّا بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الْقَصْدُ وَغَيْرُهُ مِمَّا سَبَقَ.
(**) وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ بِكَلَامِهِ ذَلِكَ الشِّعْرَ وَلَا أَرَادَهُ فَلَا يُعَدُّ شِعْرًا وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ المراد
(**) قال السيوطي في كتابه: (المزهر في علوم اللغة وأنواعها)
(2/ 398)
(**) النوع التاسع والأربعون
(**) (معرفة الشعر والشعراء)
(**) قال ابن فارس في فقه اللغة: الشعرُ كلام موزونٌ مقفى، دال على معنى، ويكون أكثرَ من بيت.
(**) وإنما قلنا هذا لأنه جائز اتفاق سطر واحد بوزن يشبه وزنَ الشعر عن غير قصد، فقد قيل: إنَّ بعض الناس كَتَبَ في عُنوان كتاب:
(للإمام المسيِّب بن زُهَيْرٍ
من عِقَالِ بن شَبَّة بن عِقال)
(**) فاستوى هذا في الوزن الذي يسمى الخفيف، ولعل الكاتب لم يقصِد به شعرا.
(**) وقد ذكر نَاسٌ في هذا كلمات من كتاب الله تعالى: كَرِهْنَا ذِكْرَها،
(**) وقد نزه الله سبحانه كتابَه عن شَبَهِ الشعر، كما نزَّه نبيه صلى الله عليه وسلم عن قوله.
(**) فإن قال قائل: فما الحكمةُ في تنزيه الله تعالى نَبيّه عن الشعر؟
(**) قيل له: أولُ ما في ذلك حكم الله تعالى بأنَّ {الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ، وأنَّهُمْ {في كلِّ وَادٍ يَهيمُونَ وأنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ}.
ثم قال: {إلاَّ الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات}, ورسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وإن كان أفضلَ المؤمنين إيمانا، وأكثر الصالحين عملا للصالحات) فلم يكن ينبغي له الشِّعر بحال، لأن للشعر شرائط لا يسمَّى الإنسان بغيرها شاعرا،
(**) وذلك أن إنسانا لو عمل كلاما مستقيما موزونا، يتحرَّى فيه الصدق من غير أن يُفْرِط، أو يتعدى أو يَمين، أو يأتي فيه بأشياء لا يمكن كونها بَتَّة لما سماه الناس شاعرا، ولكان ما يقوله مَخْسولاً ساقطا.
(**) وقد قال بعض العقلاء – وسئل عن الشعر – فقال: إن هَزل أضْحك، وإن جَدَّ كذب.
(**) فالشاعر بين كذب وإضحاك, وإذ كان كذا فقد نزه الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن هاتين الخَصلتين وعن كل أمر دَنِيّ.
(**) وبعد’ فإنا لا نكاد نرى شاعرا إلا مادحا ضارعا، أو هاجيا ذا قَذَع، وهذه أوصافٌ لا تصلح لنبي.
(**) فإن قال: فقد يكونُ من الشعر الحكمة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من البيان لسِحْراً، وإن من الشِّعْر لحكمة) أو قال: حُكْماً
(**) قيل له: إنما نزه الله نبيه عن قيل الشعر لما ذكرناه،
(**) فأما الحكمةُ فقد آتاه الله من ذلك القِسْمَ الأجزل، والنصيبَ الأوفر في الكتاب والسُّنَّة.
(**) ومعنى آخر في تنزيهه عن قيل الشعر: أن أهل العَرُوض مُجْمِعُون على أنه لا فرق بين صناعة العَرُوض وصناعة الإيقاع، إلاّ أن صناعة الإيقاع تقسيم الزمان بالنَّغَم وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة,
(**) فلما كان الشعر ذا ميزان يناسب، الإيقاع، والإيقاعُ ضرب من
الملاهي لم يصلح ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
(**) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنَا من دَدٍ ولا دَدٌ
مِني). اهـ المراد
(**) (تنبيه):
(**) الحديث الذي ذكره السيوطي: (ما أنَا من دَدٍ ولا دَدٌ مِني).
رواه البيهقي في كتاب:(الآداب),(ص: 258) برقم:(630 )
من حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي عنه مرفوعا بلفظ: «لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي» ,
(**) وضعفه العلامة الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع
برقم:(4673)
(**) والله الموفق.
(**) كتبها : أبو عبد الله أحمد بن ثابت الوصابي
(**) الثلاثاء 16 / 4 / 1442 هـ.
** من أحب الاطلاع على الفوائد السابقة فمن الموقع الرسمي على الرابط :
https://binthabt.al3ilm.net/13436