سلسلة الفوائد اليومية:
بيان الحكمة الداعية إلى وضْع اللغة
** قال السيوطي في كتابه: (المزهر في علوم اللغة وأنواعها)، (1/ 32):
** -المسألة الثالثة- في بيان الحكمة الداعية إلى وضْع اللغة:
** قال الكِيَا الهَرَّاسي في تعليقه في أُصول الفقه:
** وذلك أن الإنسانَ لمَّا لم يكن مكتفيا بنفسه في معاشه ومُقِيمات معاشه لم يكن له بدٌّ من أن يسترفد المعاونة من غيره ولهذا اتَّخَذ الناسُ المدنَ ليجتمعوا ويتعاونوا.
** وقيل: إن الإنسان هو المتمدن بالطبع والتوحُّش دَأْبُ السباع ولهذا المعنى توزَّعَت الصنائع وانْقَسَمَت الحِرَف على الخَلْق فكلُّ واحدٍ قصَر وقتَه على حِرْفة يشتغل بها؛ لأن كلَّ واحد من الخَلْق لا يمكنُه أن يقوم بجُمْلَة مَقَاصِده فحينئذ لا يخْلُو من أن يكونَ محلُّ حاجته حاضرة عنده أو غائبة بعيدة عنه.
** فإن كانت حاضرة بين يديه أمكنه الإشارة إليها، وإن كانت غائبة فلا بدَّ له من أن يدلَّ على محل حاجاته وعلى مَقْصوده وغَرضه فوضعوا الكلامَ دلالة ووجدوا اللسانَ أسرعَ الأعضاءِ حركة وقبولا للترداد.
** وهذا الكلام إنما هو حرفٌ وصوتٌ فإن تركه سدى غفلا امتدَّ وطال وإن قطعه تقطَّع فقطَّعوه وجزؤوه على حركات أعضاءِ الإنسان التي يخرج منها الصوت وهو من أقصى الرِّئة إلى منتهى الفم فوجدوه تسعة وعشرين حرفا لا تزيد على ذلك.
** ثم قسَّموها على الحلْق والصَّدْر والشَّفَةِ واللثَّة.
** ثم رَأَوْا أن الكفاية لا تقعُ بهذه الحروف التي هي تسعةٌ وعشرون حرفا ولا يحصل له المقصود بإفرادها فركبوا منها الكلامَ ثُنائيّاً وثلاثيا ورباعيا وخماسيا هذا هو الأصل في التركيب وما زاد على ذلك يُستَثْقَل فلم يضعوا كلمة أصلية زائدة على خمسة أحرف إلا بطريق الإلْحاق والزيادة لحاجة.
** وكان الأصلُ أن يكون بإزاءِ كل معنى عبارةٌ تدلُ عليه غير أنه لا يمكنُ ذلك؛ لأَن هذه الكلمات متناهيةٌ،
** وكيف لا تكون متناهية ومَوَارِدها ومَصَادرها متناهية فدعت الحاجةُ إلى وضع الأسماء المشتَركة فجعلوا عبارة واحدة لمسَمَّيَاتٍ عِدَّة كالعَيْنِ والجَوْن واللون.
** ثم وضعوا بإزاء هذا على نقيضه كلماتٍ لمعنى واحد؛ لأن الحاجةَ تدعو إلى تأكيد المعْنى والتحريض والتقرير، فلو كُرّرَ اللفظ الواحد لسَمُجَ ومُجَّ.
** ويقال: الشيء إذا تكرر تكرَّج.
** والطِّباعُ مجبولةٌ على مُعَاداة المُعَادات فخالفوا بين الألفاظ والمعنى واحد.
** ثم هذا ينقسم إلى ألفاظ متواردة وألفاظ مترادفة:
** فالمتواردة: كما تسمى الخمر: عقارا، وصهباء، وقهوة، وسلسالا، والسبعُ: ليثا، وأسدا، وضِرْغاماً.
** والمترادفة: هي التي يقام لفظ مقام لفظ لمعان متقاربة يجمعها معنى واحد كما يقال: أصلح الفاسد، ولم الشعث، ورتق الفتق، وشعب الصدع.
** وهذا أيضا مما يَحْتَاجُ إليه البليغ في بلاغته فيقال: خطيبٌ مِصْقَع، وشاعر مُفْلِق، فَبِحُسْنِ الألفاظ واختلافها على المعنى الواحد ترصع المعاني في القلوب وتَلْتَصِق بالصدور.
** ويزيد حسنُه وحَلاوته وطَلاَوته بضَرْب الأمثلة به والتشبيهات المجازية، وهذا ما يَسْتَعْمِلُه الشعراء والخطباء والمترسِّلون.
** ثم رأوا أنه يضيقُ نِطاقُ النُّطق عن استعمال الحقيقة في كل اسمٍ فعدَلوا إلى المجاز والاستعارات.
** ثم هذه الألفاظ تنقسم إلى مشتركة وإلى عامَّة مطلقة وتسمى مستغرقة وإلى ما هو مفرد بإزاء مفرد وسيأتي بيان ذلك.
** وقال الإمام فخر الدين وأتباعه: السببُ في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد وحدَه لا يستقلُّ بجميع حاجاته بل لا بدَّ من التعاون ولا تعاونَ إلا بالتَّعارف ولا تعارفَ إلا بأسباب كحركات أو إشاراتٍ أو نقوش أو ألفاظٍ توضع بإزاء المقاصد، وأَيْسَرُها وأفيدُها وأعمُّها الألفاظ:
** أمَّا أنها أيسر: فِلأَنَّ الحروفَ كيفيَّاتٌ تَعْرِضُ لأصواتٍ عارضة للهواء الخارج بالتنفس الضروري الممدود من قبل الطبيعة دون تكلُّف اختياري.
** وأما أنها أفيدُ: فلأَنها موجودةٌ عند الحاجة معدومةٌ عند عَدَمها.
** وأما أنها أعمُّها فليس يمكن أن يكونَ لكل شيءٍ نَقْشٌ كذات الله تعالى والعلوم، أو إليه إشارة كالغائبات.
** ويمكن أن يكونَ لكل شيءٍ لفظٌ.
فلما كانت الألفاظُ أيسرَ وأفيدَ وأعمَّ صارت موضوعة بإزاء المعاني. اهـ
** والله الموفق.
** كتبها: أبوعبد الله أحمد بن ثابت الوصابي
** الخميس 8 / 1 / 1438 هـ.