سلسة الفوائد اليومية:
132 ذكر مَرَاتِبُ الْجُودِ
** قال ابن القيم في كتابه القيم: (مدارج السالكين ), (2/ 279):
** وَالْجُودُ عَشْرُ مَرَاتِبَ.
** إِحْدَاهَا: الْجُودُ بِالنَّفْسِ. وَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
يَجُودُ بِالنَّفْسِ، إِذْ ضَنَّ الْبَخِيلُ بِهَا *** وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ
** الثَّانِيَةُ: الْجُودُ بِالرِّيَاسَةِ. وَهُوَ ثَانِي مَرَاتِبِ الْجُودِ.
** فَيَحْمِلُ الْجَوَادَ جُودُهُ عَلَى امْتِهَانِ رِيَاسَتِهِ، وَالْجُودِ بِهَا. وَالْإِيثَارِ فِي قَضَاءِ حَاجَاتِ الْمُلْتَمِسِ.
** الثَّالِثَةُ: الْجُودُ بِرَاحَتِهِ وَرَفَاهِيَتِهِ، وَإِجْمَامِ نَفْسِهِ. فَيَجُودُ بِهَا تَعَبًا وَكَدًّا فِي مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ.
** وَمِنْ هَذَا جُودُ الْإِنْسَانِ بِنَوْمِهِ وَلَذَّتِهِ لِمُسَامِرِهِ، كَمَا قِيلَ:
مُتَيَّمٌ بِالنَّدَى، لَوْ قَالَ سَائِلُهُ * * * هَبْ لِي جَمِيعَ كَرَى عَيْنَيْكَ، لَمْ يَنَمِ
** الرَّابِعَةُ: الْجُودُ بِالْعِلْمِ وَبَذْلِهِ. وَهُوَ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْجُودِ.
** وَالْجُودُ بِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْجُودِ بِالْمَالِ. لِأَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مِنَ الْمَالِ.
** وَالنَّاسُ فِي الْجُودِ بِهِ عَلَى مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ.
** وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ وَتَقْدِيرُهُ النَّافِذُ: أَنْ لَا يَنْفَعَ بِهِ بَخِيلًا أَبَدًا.
** وَمِنَ الْجُودِ بِهِ: أَنْ تَبْذُلَهُ لِمَنْ يَسْأَلُكَ عَنْهُ، بَلْ تَطْرَحُهُ عَلَيْهِ طَرْحًا.
** وَمِنَ الْجُودِ بِالْعِلْمِ: أَنَّ السَّائِلَ إِذَا سَأَلَكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ: اسْتَقْصَيْتَ لَهُ جَوَابَهَا جَوَابًا شَافِيًا، لَا يَكُونُ جَوَابُكَ لَهُ بِقَدْرِ مَا تُدْفَعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، كَمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَكْتُبُ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا: نَعَمْ، أَوْ: لَا. مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا.
** وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ – قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ – فِي ذَلِكَ أَمْرًا عَجِيبًا:
** كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ حُكْمِيَّةٍ، ذَكَرَ فِي جَوَابِهَا مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، إِذَا قَدَرَ، وَمَأْخَذَ الْخِلَافِ، وَتَرْجِيحَ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ. وَذَكَرَ مُتَعَلَّقَاتِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي رُبَّمَا تَكُونُ أَنْفَعَ لِلسَّائِلِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ. فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِتِلْكَ الْمُتَعَلَّقَاتِ، وَاللَّوَازِمِ: أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِهِ بِمَسْأَلَتِهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
** الْخَامِسَةُ: الْجُودُ بِالنَّفْعِ بِالْجَاهِ. كَالشَّفَاعَةِ وَالْمَشْيِ مَعَ الرَّجُلِ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ وَنَحْوِهِ.
** وَذَلِكَ زَكَاةُ الْجَاهِ الْمُطَالَبُ بِهَا الْعَبْدُ. كَمَا أَنَّ التَّعْلِيمَ وَبَذْلَ الْعِلْمِ زَكَاتُهُ.
** السَّادِسَةُ: الْجُودُ بِنَفْعِ الْبَدَنِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ. كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ: صَدَقَةٌ. وَيُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ، فَيَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ: صَدَقَةٌ. وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ: صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ يُمْشِيهَا الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ: صَدَقَةٌ. وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ: صَدَقَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
** السَّابِعَةُ: الْجُودُ بِالْعِرْضِ، كَجُودِ «أَبِي ضَمْضَمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا مَالَ لِي أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى النَّاسِ. وَقَدْ تَصَدَّقْتُ عَلَيْهِمْ بِعِرْضِي، فَمَنْ شَتَمَنِي، أَوْ قَذَفَنِي: فَهُوَ فِي حِلٍّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَسْتَطِيعُ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ؟».
** وَفِي هَذَا الْجُودِ مِنْ سَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَرَاحَةِ الْقَلْبِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ مُعَادَاةِ الْخَلْقِ مَا فِيهِ.
** الثَّامِنَةُ: الْجُودُ بِالصَّبْرِ، وَالِاحْتِمَالِ، وَالْإِغْضَاءِ.
** وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ شَرِيفَةٌ مِنْ مَرَاتِبِهِ.
** وَهِيَ أَنْفَعُ لِصَاحِبِهَا مِنَ الْجُودِ بِالْمَالِ، وَأَعَزُّ لَهُ وَأَنْصَرُ، وَأَمَلَكُ لِنَفْسِهِ، وَأَشْرَفُ لَهَا. وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا النُّفُوسُ الْكِبَارُ.
** فَمَنْ صَعُبَ عَلَيْهِ الْجُودُ بِمَالِهِ فَعَلَيْهِ بِهَذَا الْجُودِ. فَإِنَّهُ يَجْتَنِي ثَمَرَةَ عَوَاقِبِهِ الْحَمِيدَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. وَهَذَا جُودُ الْفُتُوَّةِ. قَالَ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]
** وَفِي هَذَا الْجُودِ قَالَ تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]
** فَذَكَرَ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَقَامَ الْعَدْلِ، وَأَذِنَ فِيهِ. وَمَقَامَ الْفَضْلِ، وَنَدَبَ إِلَيْهِ. وَمَقَامَ الظُّلْمِ، وَحَرَّمَهُ.
** التَّاسِعَةُ: الْجُودُ بِالْخُلُقِ وَالْبِشْرِ وَالْبَسْطَةِ.
** وَهُوَ فَوْقَ الْجُودِ بِالصَّبْرِ، وَالِاحْتِمَالِ وَالْعَفْوِ. وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ بِصَاحِبِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ. وَهُوَ أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ»
** وَفِي هَذَا الْجُودِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَسَارِّ، وَأَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ مَا فِيهِ.
** وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسَعَهُمْ بِخُلُقِهِ وَاحْتِمَالِهِ.
** الْعَاشِرَةُ: الْجُودُ بِتَرْكِهِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ عَلَيْهِمْ. فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ. وَلَا يَسْتَشْرِفُ لَهُ بِقَلْبِهِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِحَالِهِ، وَلَا لِسَانِهِ.
** وَهَذَا الَّذِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَخَاءِ النَّفْسِ بِالْبَذْلِ.
** فَلِسَانُ حَالِ الْقَدَرِ يَقُولُ لِلْفَقِيرِ الْجَوَادِ: وَإِنْ لَمْ أُعْطِكَ مَا تَجُودُ بِهِ عَلَى النَّاسِ، فَجُدْ عَلَيْهِمْ بِزُهْدِكَ فِي أَمْوَالِهِمْ. وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ، تُفَضَّلْ عَلَيْهِمْ، وَتُزَاحِمْهُمْ فِي الْجُودِ، وَتَنْفَرِدْ عَنْهُمْ بِالرَّاحَةِ.
** وَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْجُودِ مَزِيدٌ وَتَأْثِيرٌ خَاصٌّ فِي الْقَلْبِ وَالْحَالِ.
** وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ضَمِنَ الْمَزِيدَ لِلْجَوَادِ، وَالْإِتْلَافَ لِلْمُمْسِكِ.
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. اهـ باختصار .
** (تنبيه): حديث: ( أَبِي ضَمْضَمٍ . . . ) رواه أبو دواد وغيره.
** [ وضعفه العلامة الألباني في ضعيف الجامع برقم :(2185) ]
** والله الموفق .
** كتبها : أبو عبد الله أحمد بن ثابت الوصابي
** الخميس 20 / 1/ 1441 هـ
** من أحب الاطلاع على الفوائد السابقة فمن الموقع الرسمي على الرابط :
https://binthabt.al3ilm.net/11613
=======================